الدولة تحت الحصار.. داعش والقاعدة يتسابقان على وراثة مالي والنيجر وموسكو تتفرج
لم يعد الصراع في منطقة الساحل الأفريقي معركة تقليدية بين دول وجماعات إرهابية. فبعد الانسحاب الغربي المتعثر، والحضور الروسي الباهت والمنشغل، تحولت المعادلة بالكامل. اليوم، لم تعد الحكومات العسكرية في مالي والنيجر الطرف الرئيسي في الصراع، بل أصبحت هي "الجائزة الكبرى" التي يتسابق على وراثتها وحشان مفترسان: تنظيم القاعدة وتنظيم داعش. لم تعد العاصمتان باماكو ونيامي مراكز للسلطة، بل هما قلعتان محاصرتان، تشاهدان بصمت كيف يتم تقاسم البلاد من حولهما.
سباق الإرهاب الدموي
المشهد الحالي في الساحل يعكس ديناميكية جديدة ومقلقة: "الإرهاب التنافسي". لم يعد الرد على هجوم إرهابي يأتي من القوات الحكومية، بل من التنظيم الإرهابي المنافس. عندما تُكبّد جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" (فرع القاعدة) القوات المالية وفاغنر الروسية خسائر فادحة في هجوم كبير، يسارع تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" بشن مذبحة في غرب النيجر، ليس نصرةً لقضية، بل لسرقة الأضواء واحتواء الصدى الإعلامي لغريمه.
في هذه المنافسة الدموية، كلا التنظيمين يستفيد من ضربات الآخر. فبينما يركز فرع القاعدة على استنزاف القوات الحكومية والروسية، يستفيد فرع داعش من هذا الفراغ ليتمدد ويتوسع، مروجاً لنفسه على أنه "حامي الثروات الوطنية" من الاستنزاف الروسي. أصبحت الدولة مجرد متفرج عاجز، تشاهد خصومها يقتتلون على أنقاضها.
العصا والجزرة.. أم القتل والترهيب؟
في السباق للسيطرة على الأرض والقلوب، يتبع كل تنظيم استراتيجية مختلفة، لكن كلتاهما تؤديان إلى نتيجة واحدة: تقويض الدولة واستبدالها.
• تكتيك القاعدة "البراغماتي": تستخدم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين سياسة "العصا والجزرة". تفرض حصاراً خانقاً على المدن وتمنع الغذاء، ثم عندما تصل المجتمعات إلى حافة الانهيار، تعرض "تفاهمات" مع وجهاء المنطقة. المقابل: فك الحصار وتوفير الأمن مقابل الولاء والسيطرة الشرعية. إنه تكتيك خبيث يصور التنظيم كبديل "معقول" لدولة فاشلة.
• تكتيك داعش "الوحشي": لا يؤمن فرع داعش بالحلول الوسط. استراتيجيته أكثر قسوة وفتكاً وترهيباً. الهدف هو إجبار السكان على الخضوع المطلق واعتناق أدبياته المتطرفة بالقوة الغاشمة، وتحويل مناطق نفوذه إلى نماذج حكم بالرعب.
ورغم اختلاف الأساليب، فإن كليهما ينجحان في تجنيد الأتباع وتمويل نفسيهما عبر الإتاوات المفروضة على السكان والشركات، والتعاون مع عصابات الجريمة المنظمة.
الموت البطيء للدولة
النتيجة الحتمية لهذا الصراع هي انهيار كامل لمظاهر الدولة. العاصمتان باماكو ونيامي محاصرتان فعلياً، مع قطع خطوط الاتصال والطرق الرئيسية التي تربطهما بباقي أنحاء البلاد. فقدت الحكومة العسكرية ثقة الجميع: ثقة سكانها الذين لم تعد قادرة على حمايتهم أو توفير أبسط الخدمات لهم، وثقة داعميها الروس الذين أثبتوا عجزهم عن تغيير المعادلة، وثقة الشركات الأجنبية التي باتت تدفع الإتاوات للمسلحين.
في هذا الفراغ، تقدم التنظيمان ليصبحا السلطة الفعلية. هما من يوفران "الأمن" ويوزعان "الغذاء" ويحكمان بين الناس. هذه الشرعية الميدانية هي أخطر ما يواجه المنطقة، فهي تحول ولاء السكان من الدولة إلى التنظيمات التي باتت تدير حياتهم اليومية.
ترقب التحالف المرعب
وصل فرعا القاعدة وداعش إلى قمة نفوذهما، لكن صراعهما الحالي يمثل نقطة ضعف قد يستغلها خصومهما. لذلك، يرى المحللّون أن المرحلة التالية والأكثر خطورة قد تكون التوصل إلى "صيغة تفاهم" بينهما، لتقاسم مناطق النفوذ وتوحيد الجهود لابتلاع ما تبقى من الدولة.
إن تحالف هذين الوحشين، أو حتى مجرد اتفاقهما على عدم الاعتداء، سيمثل نهاية الدولة في مالي والنيجر كما نعرفها، وسيؤدي إلى ولادة "إمارة إرهابية" ضخمة في قلب أفريقيا، وهو كابوس لن تقتصر تداعياته على منطقة الساحل فحسب، بل سيهدد استقرار القارة بأكملها.